إلى شيخ الأزهر وإمامه ..
أتم الله عليكم النعمة، وأخذ بيدكم لما ترضون به ربكم، وجعلكم من مفاتيح الخير ومغاليق الشر.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. أما بعد
فإني لا أكاتبكم في شيء من الفروع بل لشيء لأجله خلقنا ولأجله نُبعث، ونحشر، بُعث سائر الأنبياء إلى أممهم لأجله، وأرسل محمد صلى الله عليه وسلم إلي وإليكم وإلى سائر أمته له وبه.
والواجب علينا أن ننصح لكم، وأن نعتمدكم بالموعظة عن علم، وإن شاركناكم في الغفلة، وإني مؤمل أن تسمعوا ممن يرجو ويخاف الله فيكم، وما أنا إلا نقلٌ وحياً من الله، وواصف هدياً لمن قال الله فيهم: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده).
لقد قرأت ما نُشر على لسانكم من تسويغٍ بل تشريعٍ لتعظيم الأضرحة والمزارات، واستنكاركم على من يقوم بإزالتها، ووصفهم بالتشدد والتنطع، مستندين في ذلك إلى طول العمل على تعظيم المزارات والأضرحة، والقول في ذلك على ما يلي :
أولاً : لا يخفى أن العبرة إنما هي بالحقائق، وأما المصطلحات فهي ألبسة يتترس بها كل صاحب حق أو باطل، في كل زمن وفي كل خلاف، والعقل والنقل لا يعتبر بتلك الظواهر ما لم تكن مقترنة بحقائق صحيحة، وإلا لوجب للأنبياء أن يُسلِّموا لفرعون دعواه الرشد، ولقوم شعيب الحلم والعقل، ولكفار قريش النصح والصدق، ولهذا فلا عبرة برمي ألفاظ التنديد والتخطئة إذا خلت من حقائق الوحيين.
ثانياً: إنّ تقادم الزمن على عمل، لا يُصيّره حقاً، ولو كان كذلك فقرون الجاهليات الأولى والثانية أطول مُدداً، وكثير من الشعوب اليوم التي لم يصل إليها الإسلام صحيحاً كبعض البلدان الوثنية أطول عمراً في الباطل من الإسلام في الحق، والقدرية والجهمية المنتسبة للإسلام أطول عمراً من الصوفية القبورية، فلم تفضل الجهمية والقدرية بعمرها الأطول على غيرها صحةً في القول والعمل، والحق حقٌ طلعت عليه الشمس يوماً أو أياماً، والباطل باطل وإن تقلب عليه في الليل والنهار، فوثنية قوم نوح أبقى في الناس اليوم من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم العامة، وأطول عمراً.
وإن أخطر شيء على العالم أن يهدي غيره بغير هدي محمد، وأن الرئاسة التي أنت فيها، لن تُحشر عليها يوم القيامة، وأن أعظم ما يمنع الإنسان من الوصول إلى الحق خشية فوات حظوته في الناس، وهذا ما جعل فرعون وهامان وقارون وأسياد قريش وكسرى وقيصر يمتنعون عن الإذعان للحق إذا اتضح، وأن الاستدلال بأن تاريخ الأزهر باقٍ على هذا النهج منذ قرون، فهذا وإن كان لا يُسلم إلا أنه حجة الجاهليين حينما قالوا: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، وطول الأزمنة على غير الحق، تزيد القلوب قسوة وصلابة وعناداً كحال اليهود والنصارى، قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ).
والمعهود عن فضلاء الأزهر وتاريخه العدل مع النفس ومع الله، والعدل مع الله أعظم العدل، والظلم في حقه أعظم الظلم، فالله يقول: (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم).
وأُعيذكم بالله من مشيخة وإمامة لا تُحقق التوحيد ولا تدل على الواحد، ولا تدعو إلى عبادته، والاعتراف بوحدانيته والقيام بحقه، والمصير إلى كنفه.
وإني أُذكركم بآخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عاش بعدها تسع ليالٍ: (واتقوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله).
وأذكركم أيضاً بأرجى آية في القرآن لأهل التوحيد: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ولا يباري التوحيد عمل على الإطلاق، قال يحي بن معاذ: إن للتوحيد نوراً وللشرك ناراً، وإن نور التوحيد أحرق لسيئات الموحدين من نار الشرك لحسنات المشركين.
وإني أخشى عليكم تبعة نصرتكم لمن ينازع الله في حقه، فأنتم تقومون مقام التشريع، وتأخذون آثام إقراركم لما يُفعل عند تلك الأضرحة والمزارات من شرك وجهل، والتقليد للعالم في هذا الأمر خطير فعمرو بن لحي الخزاعي كان شيخاً في قبيلة خزعة وسيداً مطاعاً وهو أول من سيّب السوائب في الجاهلية فتبعه عليها الناس، فكانت عاقبته كما أخبر صلى الله عليه وسلم في البخاري قال: (رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً، ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قصبه في النار وهو الذي سيب السوائب).
ثالثاً: لقد شاهدت وغيري الأضرحة والمزارات في كثيرٍ من بلدان مصر، والتاريخ شاهد أنها أول ما نشأت صغيرة لا ترتفع عن الأرض، ومع مرور قرون انتقلت من تراب مستوٍ كما دفن محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء من قبله إلى قبور مجصصة ثم بُني عليها رخام غالي الأثمان، ثم شُرفت بنحو متر مرتفعاً، ثم وُضعت حولها المصابيح والأنوار، وأُحيطت بالأسوار والفرش، وقد سماها أهلها بغير اسمها، فتحوّلت الأسماء الجاهلية (الأصنام) و(الأوثان) إلى (المزارات) و(الأضرحة)، ولا فرق في الحال بين ما يُفعل عندها وبين ما يفعله الجاهليون، إلا أن عبّاد الأضرحة اليوم يعبدون مألوهاً تحت الأرض، وعُبّاد الجاهلية يعبدون مألوهاً فوق الأرض.
يسألونها من دون الله قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وقد رأيت بنفسي من يسجد إلى ضريح في مصر عكس القبلة التي جعلها الله قبلة للمسلمين.
وقد أخبرنا الله عن شرك العرب قبل الإسلام، وقد كانت بدايته كما قال ابن عباس رضي الله عنه، قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد أما ود كانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع كانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت.
رابعاً: يجب أن يُعلم أن ميت المتأخرين - وإن أعز في نفوس أهله – ليس بخير من جسد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فعن القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أمه اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء.
فما فعل الصحابة وهم أحب الناس إليه وهو أحب الناس إليهم ما يفعله أهل الأضرحة في أمواتهم، ففي الصحيح عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: (والله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه و سلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له).
عرفوا قدره، وأطاعوه حق الطاعة فالتزموا أمره واجتنوا نهيه، وما رفعوا قبره، وهذا التعظيم الحق، فما فعلوا ولا فعلنا وما فعلتم ولن نستطيع أن نفعل في نُخامة من نُحب من آباء وأمهات وأولياء ما فعلوه مع محمد صلى الله عليه وسلم، فحبهم هو الحب المنضبط بالوحي الصادق والكتاب الناطق، لا بالعاطفة والمحبة النفسية الهائمة التي يجعل الشيطان عليها صروحاً يتسور بها حمى التوحيد ويُلوِّث حياضه.
خامساً: إن رأيتم الظنون بهذا الحقق تتردد، والجهات التي يميل إليها الرأي تتكاثر، فحُكم الله بيننا وبينهم، فما استعبدنا الله إلا بوحي خاص من عنده، لا من عند غيره، فهو القائل: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)، فلو بقي المعلوم على النفي لما علمنا شيئاً، ولولا التوضيح بالاستثناء لما بقي شيء، لكنه سبحانه نفى بـ(لا) على ما يقتضيه التوحيد، وبقي بـ(إلا) ما كنا له به عبيداً، والداخل معه في الاستثناء مزاحمٌ له في مشيئته الخاصة التي لا تنبغي إلا له.
والله منادينا وإياكم وسائلنا: (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين)، مُرسلين منه لا من غيره، من أتباع فلان وفلان، وهذا ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن فضالة بن عبيد أنه كان بأرض الروم فتوفي صاحب لهم فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي ثم قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمر بتسويتها).
وفي صحيح مسلم قال علي رضي الله عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا أدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته.
وعن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه، وأن يُزاد عليه. رواه مسلم وأبو داود وهذا لفظه.
وإن زعم زاعم أن البناء على القبور وتجصيصها ووضع المصابيح عليها من الجائز أو من مواضع الخلاف، فوالله ما عرف الحق والإنصاف، والأدلة شاهدة ومثل هذا الخلاف شؤم على الدين، وليس هو في باب الرحمة المزعومة، التي يسوغ فيها الخلاف، وإن كدر على بعض من يزعم ذلك شيء من العلم، فقد صفا على غيرهم، روى أبو نعيم في الحلية أن أبا يزيد البسطامي قال: لولا اختلاف العلماء لتعبت، واختلاف العلماء رحمه إلا في تجريد التوحيد.
ثم ليقل من سوغ ذلك من المبتدعة، كيف عُبدت القبور والأضرحة والمزارات، هل بُنيت عليها المساجد وصُلي عليها في يوم أو شهر وسنة، أم هي أجيال تبتدع، ثم أجيال تُشرك.
سادساً: إن أئمة الهدى من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم على منع تجصيص القبور ورفعها فضلاً عن صرف شيء من العبادة لها من دون الله:
قال مالك بن أنس إمام أهل المدينة كما في المدونة: (أكره تجصيص القبور والبناء عليها، وهذه الحجارة التي تبنى عليها)، والكراهة منه هنا التحريم كما لا يخفى، قال القرطبي في تفسيره: (اتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها إلى غير ذلك مما تضمنته السنة عن النهي عنه ممنوع لا يجوز).
وقال الشافعي كما في الأم: لم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة، وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يُبنى فيها، فلم الفقهاء يعيبون ذلك.
وقد أكثر أصحاب أحمد وأبي حنيفة من نقل المنع عن البناء على القبور، فضلاً عن صرف شيء لها من دون الله، في مواضع كثيرة جداً.
وقد أمرنا الله بتوحيده ونهانا عن الشرك ووسائله، فما من أحد أعلم بالتشريع من مشرّعه، فإن أردتم أن تعرفوا التوحيد وحقيقة ضده، فانظروا في الآيات والأحاديث الواردة من وحي القرآن والسنة الصحيحة، فلا أحد أعرف بالشيء منه بنفسه، فلتنظروا بما أمر الله به ونهى، وتسألون الله أن يفهمكم ذلك فستقفون على علم ما تقدم، ولا يحول بينكم وبينه حائل، وما ضل الناس إلا باحتجاجهم بأخبار واهية في كتب السير والتواريخ والمغازي كمغازي موسى بن عقبة وغيرها، فيجعلون منها ديناً ويرمون النصوص الظاهرة.
سابعاً: لقد كان السالفون يُخفون بعض قبور الصالحين خشية تَعلُّق ضُعفاء الناس وجهلتهم بها، فقد صح عند ابن أبي الدنيا عن أبي العالية قال: لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف له فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر رضي الله عنه فدعا له كعبا فنسخه بالعربية فأنا أول رجل من العرب قرأه قراءة مثل ما قرأ القرآن هذا فقلت لأبي العالية: ما كان فيه فقال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد قلت: فما صنعتم بالرجل قال حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه فقلت: ما كانوا يرجون منه قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون فقلت: من كنتم تظنون الرجل قال: رجل يقال له دانيال فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة قلت: ما كان تغير منه شيء قال: لا إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع.
وقد أشار العلامة الشوكاني رحمه الله إلى أن البناء على القبور سبب رئيس في عبادة القبور فقال: (فلا شك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما زينه الشيطان للناس من رفع القبور ووضع الستور عليها وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة وتحسينها بأكمل تحسين فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بنيت عليه قبة فدخلها ونظر على القبر الستور الرائعة والسرج المتلألة وقد سطعت حوله مجامر الطيب فلا شك ولا ريب أنه يمتليء قلبه تعظيما ً لذلك القبر ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنزله ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان على المسلمين وأشد وسائله إلى ضلال العباد ما يزلزله عن الإسلام قليلا ً قليلا ً حتى يطلب من صاحب ذلك القبر مالا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى فيصير في عداد المشركين والعياذ بالله تعالى) انتهى .
وحال الأصنام بدأت من هذا بخبر الصادق صلى الله عليه وسلم، روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: إن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه و سلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها مارية فذكرت له ما رأت فيها من الصور فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله).
أسأل الله لي ولكم عوناً وتوفيقاً على الحق، وجعلكم وآلكم من حماة التوحيد والسنة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.