[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
كثيرون منا يستخدمون هذه الجملة مقدمة اتصال: (أبد والله حبيت أسلم
عليك)، لكنها في واقع الأمر عبارة اتصال هزيلة، وسمجة أحياناً، خاصة حينما
يبدأ صاحبك الذي جاء ليسلم عليك، أو يهاتفك؛ بتنفيذ تمثيليته ليقول لك
وكأنه يتذكر للتو: (على فكرة...)، ثم يستعرض أمامك ما جاء من أجله، أو ما
اتصل عليك بسببه.. ليفضح المبررات التي ادّعى قبل قليل أنها كانت لمجرد
السلام!. هذه التمثيلية ربما تتكرر على مدار الساعة، وهؤلاء
يستخدمون دعوى السلام طعماً فقط لبلوغ مراميهم بأقصر الطرق.. هكذا يزعمون..
رغم يقينهم بأنك تعرف أن السلام مجرد وسيلة للنفاذ إلى عواطفك.. وفرشها
بأرق المشاعر تمهيداً لاحتلالها بالمطلب الرئيس الذي دفع أخونا لتذكرك،
وتكبد العناء للوصول إليك بدعوى السلام، ورغم أن الناس.. كل الناس يعرفون
تمثيلية (حبيت أسلم عليك)، إلاّ أنهم يتعاملون معها كتحصيل حاصل..إذ لا أحد
يجرؤ أمامها على أن يقول: (فهمنا يا أخ.. هات من الآخر).. ربما لأن الجميع
يرتكبونها، ولم يصلوا بعد لاكتشاف حيلة أكثر ذكاء ومهنية منها.. لذلك
أصبحت هي شيفرة الواسطة والفزعة وطلب المعونة، وكل ما يندرج تحت هذه
المعاني.عادل إمام في أحد أفلامه، ولذات السبب الذي يُستخدم فيه
السلام كذريعة لبلوغ مصلحة ما.. كان طوال الفيلم يُردد (دا كتر السلام بيئل
المعرفه!). المجتمع ومهارة الاتصال هذا الأسلوب يعكس فيما
يعكس نظرية الأقنعة التي باتت تتفاقم في مجتمعاتنا يوماً بعد يوم، وهي سمة
رديئة تدلل على أن العلاقات الاجتماعية بين الناس أصبحت في خطر.. بحيث لم
تعد هنالك ثقة في الطرف المقابل من أنه سيلبي طلبك أو يخدمك.. ما لم تخدعه
بأنك ما جئت إليه إلاّ بعد أن جرّك الشوق والرغبة في السلام عليه، وإن ما
سيطرأ بعد هذا السلام ما هو إلا طارئ عارض جاء بعباءة (على فكرة!)، ولو
كانت العلاقات تسودها الثقة لما احتاج الناس لهذه العبارة الباهتة للنفاذ
إلى عواطف بعضهم، غير أن المشكلة أيضاً لا تكمن فقط في تدني مستوى
العلاقات، ودخولها في وحول المصالح بحيث أصبحت هذه الجملة هي مقدمة الاتصال
المتاحة، وإنما المشكلة أن الجميع يعرف أنها مستهلكة و'معلوكة'، ومع هذا
يصر على استخدامها، وكأن الأمور لا تتم إلاّ بها.. عوضاً عن البحث عن
مهارات اتصال أكثر إقناعاً، وأكثر مصداقية!. وهنالك أيضاً عبارة أخرى تشبه
شيفرة الاتصال هذه، مخصصة للاستخدام الهاتفي، وهي: (والله آسفين.. حنا ما
نتصل إلاّ لما يكون لنا حاجة)، وهي أيضاً شيفرة اتصال مشتركة ولو أنها أكثر
لطفاً.. ورغم أنه لا يمكن أن يتصل أحد بأحد إلاّ عندما تكون هنالك حاجة
لذلك الاتصال (هذا طبيعي).. إلاّ إن يكون صديقاً أو قريباً تستدعي طبيعة
العلاقة أن يكون بينك وبينه اتصال دائم ومستمر، أما من لا تربطك به صلة
مباشرة من المعارف الكثر.. فمن الطبيعي أنك لن تتصل بهم إلاّ حينما تكون
هنالك حاجة لهذا الاتصال.. إلاّ أن يكون أحدهم مريضا أو تلقى ترقية أو ما
شابه ذلك من الأحداث السعيدة أو المؤلمة لتطمئن عنه أو تبارك له.. أما أن
تعتذر له وتعرب عن أسفك أنك ما طلبته إلاّ حينما كانت لك حاجة به.. فماذا
عساك تنوي أن تفعل لو صدقناك.. هل ستعلق هاتفك على رقمه ليلاً ونهاراً؟..
فقط حتى تتحلل من هذا الأسف فيما لو احتجته ذات يوم؟.. (تخيلوا) كم سيحتاج
المرء من الوقت ليتصل بكل معارفه (عمّال على بطال) على رأي أخوتنا أهل
الشام!.. أنا على يقين أنه لو واصل ليله بنهاره.. لما أنجز هذه المهمة
المستحيلة مع معارفه!.. ثم يا الله.. كم ستبلغ فاتورة هاتفه؟. هنالك مثل شعبي بالمناسبة يقول: (قال وش يدريك إنها كذبه.. قال من كبرها)!. ما البديل؟ أليس هذا هو السؤال الذي يدور في أذهانكم.. أو بعضكم على الأقل؟.طبعاً
لسنا في هذا التحقيق بصدد البحث عن البدائل؛ لأنه لا أحد يملك إمكانية
تغيير أو تبديل مهارات اتصال الشعوب.. هذه جزء من منظومة الاتصال والعلاقات
البينية بين الناس.. لكننا معنيون بوضع مثل هذه الملابسات تحت الضوء، وهذا
ما يمكن أن يؤسس لثقافة اتصال أكثر نضجاً، وأقل أقنعة؛ لأن كثيرين
يستخدمون هذه الشيفرات بطريقة آلية، من دون أن يتمعنوا فيها، وفي أسباب
استخدامها دونا عن سواها، والسلوك الاجتماعي لا يمكن أن يتغير بتقرير أو
تحقيق صحفي، ولكنه حتما سيتغير بمناقشة هذه الصيغ، والتنبه إلى أنها أصبحت
مثل الكليشيهات من دون وعي، ومتى ما بلغنا هذا فسنجد أننا أصبحنا قادرين
على تطوير مهارات اتصالنا بشكل أفضل، لا يجرح المجاملة الاجتماعية الواجبة،
ولكنه لا يستسلم في المقابل للتضليل أو الخديعة.. وهذا هو المهم.إذن
نحن لسنا معنيين بتقديم بدائل، لكننا سنكون قد أنجزنا عملاً جيداً لو سأل
أي قارىء نفسه: كم مرة استخدمت هذه الأدوات البليدة في التواصل مع
الآخرين؟. من هنا تبدأ المجتمعات إعادة صياغة أدوات اتصالها، ومن المؤكد
أنها قادرة على ابتكار أدوات اتصال لا تبتز التعاطف بادّعاء السلام، ولا
تفترض المستحيل بتعليق سماعة الهاتف على كل من تعرف لتظهر زورا أنه في
الدائرة الأقرب وهو ليس كذلك.. بغية ترويض مشاعره لقبول المهمة. فكروا في الأمر.. فهو يستحق.