--------------------------------------------------------------------------------
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
القناعة صفة كريمة، تعرب عن عزة النفس، وشرف الوجدان وكرم الأخلاق.
قال تعالى (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)
قيل في تفسير الحياة الطيبة أنها لقناعة ; قاله الحسن البصري وزيد بن وهب و وهب بن منبه، ورواه الحكم عن عكرمةعن ابن عباس، وهو قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - .
وروى الترمذي [color:be31=******text]والحاكم و صححاه عن [color:be31=******text]فضالة بن عبيدرضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( طوبى لمن هدي للإسلام ، وكان عيشه كفافا ، وقنع )
فالقناعة هي الرضابما قسم الله، ولو كان قليلاً، وهي عدم التطلُّع إلى مافي أيدي الآخرين،وهي علامةٌ على صدق الإيمان..
أما في عمل الخير والأعمال الصالحة فإنه يحرص دائمًا على المزيد من الخيرات، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ البقرة: من الآية 197
وقوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} [آل عمران: 133].
وفي صحيح مسلم والترمذي وغيرهما عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( قد أفلح من أسلم و رزق كفافا و قنعه الله بما آتاه)
فيه دلالةعلى عنوان الفلاح في الدنيا والأخرة وذلك ماجمع ثلاثة أمور :
أولاها الإسلام فعليه مدار الفوز بالثواب والنجاة من العقاب،
وثانيها حصول الرزق الذي يكفيه ويكف وجهه عن سؤال الخلق ،
وثالثها أن يقنعه الله تعالى بهذا الكفاف
لئلا تنشغل نفسه بملذات الدنيا عن إقباله على ربه فيقسوا قلبه ويظل كالذي يأكل ولايشبع لفقده للقناعة بما آتاه الله،
فالذي أعطاه الله تعالى الإسلام سلك بقلبه طريق الهداية ولئلا ينشغل هذا القلب عن المقصود الأصلي في الحياة وهو تمام عبادة الله تعالى حق العبادة رزقه ما يكفيه من الدنيا وجعل في هذه الكفاية قناعة للنفس وغنى للقلب ليكون أكثر إقبالاً على ربه جل وعلا والغنى ليس عن كثرة ولكن الغنى غنى النفس .
قال ابن القيم – رحمه الله - : " يكمل غنى القلب بغنى آخر هو غنى النفس وآيته سلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة "
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : «اللّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً» أخرجه البخاري و مسلم
القوت : هو ما يقوت ويكفي من العيش ، وهو بمعنى الكفاف ، فكأنالنبي – صلى الله عليه وسلم – دعا أن يكون رزق آل محمد – صلى الله عليه وسلم – ما يقوتهم ويكفيهم بحيث لا يعرضهم لحاجة أو فاقة ولا إلى ترف وانبساط منالدنيا.
والحديثان فيهما دلالة على فضل القناعة والرضا بما قسمه الله تعالى، ففي القناعة غنى للقلب و النفس التي إذا لم تقنع فلن تشبع .
والنبي – صلى الله عليه وسلم – يضع قاعدة يبيَّن فيها أهمية القناعة فيقول (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس)
- ويجعلها أحد أسس الفلاح في الحياة فيقول ( قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً ومتعه الله بما آتاه)
- ثم هو – صلى الله عليه وسلم – يدعو أن يرزقه الله ما يدل على ذلك فيقول (اللّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً)
من ثمار القناعة
الإنسان القانع يحبه الله ويحبه الناس، والقناعة تحقق للإنسان خيرًا عظيمًا في الدنيا والآخرة، فمن ثمارها
1- امتلاء القلب بالإيمان بالله- سبحانه تعالى- والثقة به، والرضى بما قدر وقَسَم، وقوة اليقين بما عنده- سبحانه وتعالى- ذلك أن من قنع برزقه فإنما هو مؤمن ومتيقن بأن الله- تعالى- قد ضمن أرزاق العباد وقسمها بينهم حتى ولو كان ذلك القانع لا يملك شيئًا
2- الحياة الطيبة
قال تعالى ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)
3- تحقيق شكر المنعم- سبحانه وتعالى- ذلك أن من قنع برزقه شكر اللّه- تعالى- عليه، ومن تقالّه قصَّر في الشكر، وربما جزع وتسخط- والعياذ بالله-
ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس }.
4- الفلاح والبشرى لمن قنع:
فعن فضالة بن عبيد صلى الله عليه وسلم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافًا، وقنع"
وعن عبد اللّه بن عمرو - رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا، وقنعه اللّه بما آتاه}
5- الوقاية من الذنوب التي تفتك بالقلب وتذهب الحسنات:
كالحسد، والغيبة، والنميمة، والكذب، وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة؛ ذلك أن الحامل على الوقوع في كثير من تلك الكبائر غالبًا ما يكون استجلاب دنيا أو دفع نقصها. فمن قنع برزقه لا يحتاج إلى ذلك الإثم، ولا يداخل قلبه حسد لإخوانه على ما أوتوا؛ لأنه رضي بما قسم له.
6- سبب للبركة..
لقوله صلى الله عليه وسلم ( ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس )متفق عليه
7- بالقناعة تملك الدنيا..
لقوله صلى الله عليه وسلم( من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافىً في جسده، عنده قوتيومه، فكأنما حيزت له الدنيا )الترمذي وابن ماجه
8- تكون أغنى الناس..
لقوله صلى الله عليه وسلم: "وارْضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس" (الترمذي وأحمد).
فالمسلم عندما يشعر بالقناعة والرضا بما قسمه الله له يكون غنيا عن الناس،عزيزًا بينهم، لا يذل لأحد منهم.
أما طمع المرء، ورغبته في الزيادة يجعله ذليلاً إلى الناس، فاقدًا لعزته
وقد بين- عليه الصلاة والسلام- أن حقيقة الغنى غنى القلب فقال صلى الله عليه وسلم {ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس}
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم {يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم يا رسول الله،
قال: "فترى قلة المال هو الفقر؟ "
قلت: نعم يا رسول اللّه.
قال: إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب}.
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : يا بني إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة فإنها مال لا ينفذ ، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر ، وعليك بالإياس مما في أيدي الناس فإنك لا تيأس من شيء إلا أغناك الله عنه
هي القناعة فالزمها تعش ملكا
لو لم يكن منها إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها
هل راح منها سوى بالقطن والكفن
9- القناعة طريق للجنة..
لقوله صلى الله عليه وسلم: "من يتكفَّل لي أن لا يسأل الناس شيئًا وأتكفل لهبالجنة؟!"، فقال ثوبان: "أنا.
فكان لا يسألأحدًا شيئًا" أبو داود والترمذي)
10- القناعة عزة وراحة للنفس..
في الحديث القدسي: "يا ابن آدم، تفرغْ لعبادتي أملأ صدرك غِنًى، وأَسُدَّ فقرك، وإن لم تفعل، ملأتُ صدرك شُغْلاً، ولم أسُدَّ فقرك" (ابن ماجه
من الأسباب المعينة لتحصيل القناعة
1- تقوية الإيمان بالله تعالى، وترويض القلب على القناعة والغنى؛
فإن حقيقة الفقر والغنى تكون في القلب؛
فمن كان غني القلب نعم بالسعادة وتحلى بالرضى، وإن كان لا يجد قوت يومه،
ومن كان فقير القلب؛ فإنه لو ملك الأرض ومن عليها إلا درهما واحدا لرأى أن غناه في ذلك الدرهم؛ فلا يزال فقيرًا حتى يناله.
2- اليقين بأن الرزق مكتوب والإنسان في رحم أمه، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه وفيه: "ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات، فيكتب: رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد "
فالعبد مأمور بالسعي والاكتساب مع اليقين بأن الله هو الرازق وأن رزقه مكتوب.
3- تدبر آيات القرآن العظيم ولا سيما الآيات التي تتحدث عن قضية الرزق والاكتساب.
و معرفة حكمة الله- سبحانه وتعالى- في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد؛ حتى تحصل عمارة الأرض، ويتبادل الناس المنافع والتجارات، ويخدم بعضهم بعضًا.
قال الله تعالى(وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم )
أي رفع بعضكم فوق بعض في الخلق والرزق والقوة والبسطة والفضل والعلم .
قال تعالى (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا)
أي أنه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم ليسخر بعضهم بعضا في الأعمال فيسخر الأغنياء الفقراء فيكون به بعضهم سببا لمعاش بعض
4- الإكثار من سؤال اللّه- سبحانه وتعالى- القناعة، والإلحاح بالدعاء في ذلك.
5- النظر إلى حال من هو أقل منك في أمور الدنيا، وعدم النظر إلى من هو فوقك فيها؛
ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة اللّه} متفق عليه
6- قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- ثم الصحابة الكرام- رضي اللّه عنهم- والتابعون لهم بإحسان وأحوالهم مع الدنيا، وزهدهم فيها، وقناعتهم بالقليل منها، وهم قد أدركوا الكثير منها فرفضوه إيثارا للباقية على العاجلة. فإن معرفة أحوالهم، وكيف كانت حياتهم ومعيشتهم تحفز العبد إلى التأسي بهم، وترغبه في الآخرة، وتقلل عنده زخرف الحياة الدنيا ومُتَعِها الزائلة.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا القناعة بما رزقنا، وأن يجعل حسابنا يسيرا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا ونياتنا، إنه سميع مجيب. والحمد للّه رب العالمين