غزوات عام 4 هـ
غزوة ذات الرقاع
بعدما كُسرت شوكة جناحين من الأحزاب: اليهود ومشركي مكة من قبل المسلمين، بقي جناح ثالث: وهم الأعراب القساة الضاربين في فيافي نجد، والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهب والسلب بين وقت وآخر.
فأراد الرسول صلى الله عليه و سلم تأديبهم، وإخماد نار شرهم، ولما كانوا بدواً لا بلدة أو مدينة تجمعهم، بات لا يجدي معهم سوى حملات التأديب والتخويف، فكانت غزوة ذات الرقاع.
جرت أحداث هذه الغزوة في السنة الرابعة من الهجرة، بعد خيبر، كما رجحه ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد. وبدأت حين سمع النبي صلى الله عليه و سلم باجتماع قبائل: أنمار أو بنى ثعلبة، وبنى محارب من غطفان، فأسرع بالخروج إليهم بأربعمائة أو سبعمائة من الصحابة، واستعمل على المدينة أبا ذر، وقيل عثمان بن عفان، وسار متوغلاً في بلادهم حتى وصل إلى موضع يقال له نخل، ولقي جمعاً من غطفان، فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال، إلا أنه صلى بالصحابة صلاة الخوف، فعن جابر قال: (خرج النبي صلى الله عليه و سلم إلى ذات الرقاع من نخل، فلقي جمعاً من غطفان، فلم يكن قتال، وأخاف الناس بعضهم بعضاً، فصلى النبي صلى الله عليه و سلم ركعتي الخوف) رواه البخاري.
وكان لكل ستة بعير يتعاقبون على ركوبه، حتى تمزقت خفافهم، ولفّوا على أرجلهم الخرق؛ ولذلك سميت الغزوة بذات الرقاع، ففي الصحيحين عن أبى موسى رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في غزاة، ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، وكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسُمِّيت غزوة ذات الرقاع؛ لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا).
ومما صاحب هذه الغزوة قصة الأعرابي، ففي البخاري، عن جابر رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه و سلم ، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي صلى الله عليه و سلم معلق بالشجرة، فاخترطه فقال: تخافني ؟، قال: لا قال فمن يمنعك منى ؟ قال: الله، فتهدده أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ، وأقيمت الصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكان للنبي صلى الله عليه و سلم أربع، وللقوم ركعتان).
وكان لهذه الغزوة أثر في قذف الرعب في قلوب الأعراب القساة، فلم تجترئ القبائل من غطفان أن ترفع رأسها بعدها، بل استكانت حتى استسلمت، وأسلمت، حتى شارك بعضها في فتح مكة وغزوة حنين.
وبهذا تم كسر أجنحة الأحزاب الثلاثة، وساد الأمن والسلام ربوع المنطقة، وبدأ التمهيد لفتوح البلدان والممالك الكبيرة، لتبليغ الإسلام ونشر الخير.