الحثِّ على الازدياد من العلم والتبحُّر فيه
إذا
انخرط الطالبُ في سِلْك القُرَّاء وانضم إلى ناديهم، فلا بُدَّ له من
استثمار قراءته وتوظيفها، ليجنيَ منها ما تمنَّى، ولا يضيع تعبه سدى، ولا
طريقة أنفع ولا أنجع لتحقيق ذلك من الكتابة والتقييد. فيقيد الفائدة
المستجادة، والنقل العزيز، والتحرير المُدَلَّل، والترتيب المبتكر، وطرائف
النقول والحِكَم، ودقائق الاستنباطات، ولطائف الإشارات، والأشباه والنظائر،
وغيرها فكلّ نوع من هذه الفوائد له في عقل الطالب الجاد وقَلْبه مكانه
الخاصّ به اللائق بمثله، فمعرفة اقتناص الفوائد شيء،
وسرعة اقتناصها والاحتفاظ بها شيء ثانٍ، ثم معرفة توظيفها ووضعها في
مكانها اللائق بها شيءٌ ثالث، فإذا أجتمعت هذه الثلاثة استكملَ الطالبُ
فوائدَ القراءة وجنى ثمرتَها
قال
الإمام النووي –وهو يرشد الطالب إلى تعليق النفائس والغرائب مما يراه في
المطالعة أو يسمعه من شيخه-: ((ولا يحتقرن فائدة يراها أو يسمعها في أيِّ
فنٍّ كانت، بل يُبادِر إلى كتابتها، ثم يواظب على مطالعة ما كتبه...)) اهـ.
وقال –أيضًا-: ((ولا يؤخِّر تحصيل فائدة –وإن قَلَّت- إذا تمكَّن منها،
وإنْ أمِنَ حصولها بعد ساعة، لأن للتأخيرِ آفاتٌ، ولأنه في الزمن الثاني
يُحَصِّل غيرَها)) فهذه نصيحة غالية، ولَفْتَةٌ من إمام، فتمسَّك بها تُفْلِح
فكم من عالمٍ أبدى أسَفَه وحَسْرَته على فوائد فاته تقييدُها فشردت، أو اتكل على حافظته فخانته (والحفظ خوَّان)، فهذا
الإمام ابنُ حجر (حافظ عصره) فاتَه تقييدُ شيءٍ من الفوائد فتأسَّف عليه،
قال تلميذه السخاوي في ((الجواهر والدرر)): ((أما التفسير، فكان فيه آيةٌ
من آيات الله تعالى، بحيث كان يُظْهِر التأسُّفَ في إهمال تقييد ما يقع له
من ذلك مما لا يكون منقولاً... وفي أواخر الأمر صار بعض طلبته يعتني بكتابة
ذلك)). وصدق القائل: ((وكم حَسَراتٍ في بطونِ المقابرِ)). وأنت إذا نظرت في سِيَر العلماء، وكيف حرصهم على اغتنام الزمان وتقييد الفوائد رأيتَ عجبًا!ـ
فهذا الإمام البخاري –رحمه الله- (جَبَلُ الحِفْظ) يستيقظ مراتٍ كثيرة في الليل ليُقَيِّد الفوائد، قال راويته الفَرَبري: ((كنت مع محمد بن إسماعيل بمنزله ذات ليلةٍ، فأحصيت عليه أنه قام وأسْرَجَ يستذكر أشياءَ يُعلِّقها في ليلةٍ ثمان عشرة مرَّة))ـ وهذا الإمام الشافعي (204) يحكي عنه صاحبُه الحُمَيْديُّ –لمَّا كانا بمصر- أنه كان يخرج في بعض الليالي فإذا مصباح منزل الشافعي مُسْرج، فيصعد إليه ((فإذا
قِرْطاس ودَوَاة، فأقول: مَهْ يا أبا عبدالله! فيقول: تفكّرت في معنى حديث
–أو في مسألة- فخِفْت أن يذهب عَلَيَّ، فأمرت بالمصباح وكتبته))ـ
وذكر ابنُ الأبَّار الحافظُ في ((معجم أصحاب الصدفي)) في ترجمة العلاَّمة أبي القاسم ابن ورد التميمي (540) أنه كان لا يُوْتى بكتابٍ إلا نظر أعلاه وأسفله، فإن وجد فيه فائدة نقلَها في أوراق عنده، حتى جمع من ذلك موضوعًا
وذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة الإمام الزركشي (794)
صاحب ((البحر المحيط)) وغيره أنه كان يتردد إلى سوق الكتب، فإذا حضره
أخَذَ يُطَالع في حانوت الكتبي طول نهاره، ومعه ظهور أوراق يُعلِّق فيها ما
يعجبه، ثم يرجع فينقله إلى تصانيفه
وقد دوّن كثير من العلماء هذه الفوائد في كتب مفردة، مثل: ((الفنون))
لابن عقيل وهو من أضخم الكتب، و((الفوائد العونية)) للوزير ابن هبيرة،
و((صيد الخاطر)) وغيره لابن الجوزي، و((قيد الأوابد)) في (400 مجلد)
للدعولي، و((عيون الفوائد)) لابن النجار في (6 أسفار)، و((بدائع الفوائد))
و((الفوائد)) لابن القيم، و((التذكرة)) للكندي في (50 مجلدًا)، و((مجمع
الفوائد ومنبع الفرائد)) للمقريزي كالتذكرة له في نحو (100 مجلد) وتذكرة
السيوطي في أنواع الفنون في 50 مجلدًا، وتذكرة الصفدي في مجلدات كثيرة أكثر
من (30) منها أجزاء مخطوطة. وغيرها كثير. ولا يتوهَّمنَّ أحدٌ لاجل ثنائنا وإشادتنا بتقييد العلم وتدوين الفوائد
أنَّا نُقلِّل من أهمية الحفظ ونحط من شأنه، كلا، إذ لا تعارض بينهما بحمد الله تعالى، وهل من ذكرنا خبرهم –قريبًا- في حِرصهم على التقييد
إلا من أكابر الحفَّاظ!!ـ
منقول