لم أتعجب كثيراً وأنا أشاهد أحد المحاسبين العرب وهو يتجرأ على كبار علماء الشريعة بالمملكة العربية السعودية ويهاجمهم عبر فضائية إقرأ ببحث تنطع فيه ليلوي النصوص ويتجرأ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويقدح في شخصه بأنه كان يمارس الاختلاط ويدخل بيت أجنبية وينام عندها وسط أبنائها وتفلي شعره وتتحرك أمامه كاشفة عن أعضاء الوضوء وعلى هذا الأساس المغلوط أحل ذلك المبتدع الاختلاط بين الجنسين، دون قيد أو شرط إلا الخلوة، مع جواز أن يجلس المرء مع زميلته في العمل أو الدراسة وتكشف أمامه أعضاء الوضوء، وتفلي شعره، ويتجاذبوا أطراف الحديث طالما أن ذلك يتم أمام أعين الناس.
وقد رد عليه العلماء الأجلاء الذين استضافتهم الفضائية بأن هذه المرأة العجوز هي خالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة، وبالتالي فهي من المحارم، وأن الالتباس في عقل هذا المحاسب راجع إلى أنه أقحم نفسه في صنعة لا يملك أدواتها، واستدل على جواز الاختلاط المطلق بالنصوص التي وردت قبل آيات فرض الحجاب، وإضعافه لأحاديث صحيحة صححها كبار علماء الحديث سلفاً وخلفاً، مع فهمه للنصوص الشرعية بحسب هواه، وبحسب قدراته العقلية الشرعية المحدودة، وعليه حذر العلماء الأجلاء من مغبة الأهواء والتلاعب في النصوص الشرعية بطريقة من شأنها الإفساد ونشر الفوضى والانحلال في المجتمعات الإسلامية المستقرة.
عدم تعجبي من أمر هذا المحاسب هو أن ما أتى به من ابتداع وافتراءات على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومحاولة خلخلته الثوابت الشرعية الراسخة والتي أجمع عليها الأئمة الأربعة وكافة علماء الأصول، إنما يأتي ضمن إستراتيجية غربية تهدف إلى خلخلة الثوابت الإسلامية بالدعوة إلى إعادة قراءة النصوص الشرعية لتتوافق مع الأطروحات الغربية، وبطريقة مخالفة لفهم علماء الشريعة للنصوص، هؤلاء العلماء الأجلاء الذين يملكون كافة أدوات التعامل مع تلك النصوص واستنباط الأحكام منها، مع سعي الغرب لإضفاء الشرعية الإسلامية على الأهواء الغربية فتحدث البلبلة داخل المجتمعات الإسلامية، وتنتقل بذلك القضية محل النقاش من قضية ثابتة ومجمع عليها، إلى قضية خلافية يستند فيها على المخالف في التذرع بشرعية هوى الناظر، ويوجه العوام صوب بؤرة المخالف تذرعاً أيضاً بالشرعية المزيفة، وتتحول المسألة محل النقاش من معصية ومخالفة شرعية تستوجب الإنكار والنهي إلى مباح يرغب فيه ولا يأثم مرتكبه.
وهذه دائرة سرطانية شديدة الخطورة على الهوية الإسلامية، حيث يتم صناعتها بجوار الدائرة الشرعية الأصلية الثابتة بحنكة عالية وبتدبير ماكر وإنفاق سخي، وهي دائرة تخدم أطراف ثلاثة اليهود والنصارى والشيعة، وتأملوا النصوص التي يتم الدندنة عليها، فستعلمون كيف يحقق التلاعب بها أهدافهم.
وأطروحات أهل الكتاب توضح جلياً الهدف بعيد المدى الذي يصبون إليه وهو تحريف الدين الإسلامي ليكون وفق رؤيتهم هم؛ ومن أجل تحريف الإسلام يقول تقرير مؤسسة راند الأمريكية -والمقربة من مواقع صنع القرار الأمريكي- والذي حمل عنوان "الإسلام المدني الديمقراطي": "إن مسألة تعديل دين عالمي ليس بالأمر السهل، فإذا كانت بناء أمة مهمة خطيرة، فإن بناء الدين مسألة أكثر خطورة وتعقيداً منها".
وعلى ذلك يحاول الغرب الضغط على الدول الإسلامية لإعادة قراءة الإسلام وفق النظرة الغربية للمدنية وحقوق الإنسان، وذلك تشكيكاً منهم في أن الاختلافات بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية في بعض المسائل المتعلقة بالمدنية وحقوق الإنسان، إنما راجع إلى ما أطلق عليه الغرب " التشدد في التفسيرات"؛ وليس إلى اختلاف المنطلقات بين الإسلام والغرب. ففي دراسة صادرة عن الأمم المتحدة عام 1968 حملت عنوان (الأمم المتحدة وحقوق الإنسان) جاء فيها أن "السبب في مشكلة حقوق الإنسان في المجتمعات الإسلامية ليس في الإسلام ذاته، ولكن المشكلة في السياق الاجتماعي والسياسي للتأويلات، وهى بذلك مسألة عارضة وليست أصلاً في الإسلام".
وتوضيحاً لمهام التحريف الذي يسعى إليه الغرب يقول الباحث الغربي " موشي بوري" Moshipouri " أن العلماء والباحثين المسلمين يتعين عليهم أن ينظروا نظرة ناقدة ومتفحصة لتراث الإسلام، وذلك إذا ما أرادوا أن يؤسسوا بناء على هذه النظرة مجتمعاً يقوم على أساس نظام حقوق الإنسان القائمة والموجودة بالفعل".
فعمود الاستراتيجية الغربية هنا يقوم على تصوير الأمر على أن الإشكالية عند المسلمين هي في فهم السلف الصالح وعلماء المسلمين للقرآن والسنة، فإذا ما أراد المسلمون مجتمعاً يقوم على المدنية وحقوق الإنسان، فعليهم أن يعيدوا تفسير القرآن الكريم والسنة المطهرة وفق قواعد المدنية وحقوق الإنسان برؤيتهما الغربية لتكون لها المرجعية في تفسير النصوص الإسلامية، فإن حدث تعارض قدمت الرؤية الغربية للمدنية وحقوق الإنسان على فهم العلماء وتفسيراتهم.
ولذلك فإن هذا المحاسب لن يكون آخر من يتلاعب بالثوابت، لكن سيظهر كثير ممن لا يملكون المؤهلات الشرعية والذين سيتلاعبون بالنصوص ويحاولون خلخلة الثوابت، والتعامل مع هؤلاء لا ينبغي أن يكون بصرف الوقت والجهد في تفنيد الشبهات، لأنه بفهم الاستراتيجية الغربية العامة التي يتحركون في فلكها ستتغير رؤى المواجهة وإيقاف محدودي العلم الشرعي عند حدودهم عندما يتحدث الفقهاء.